الكيان
الصهيوني الغاصب لفلسطين ما زال يبرهن مرة بعد مرة أنه قادر على التحكم
بإيقاع الأحداث في المنطقة، يسرِّع من وتيرتها في الوقت الذي يريده،
ويهدِّئ في الوقت الذي يريده، ولا يستطيع طرف على الحقيقة أن يتدخل لوقف
هذا التلاعب "الإسرائيلي" بإيقاع الأحداث في المنطقة، ففي ساعات معدودة
استطاع الصهاينة أن يجذبوا الانتباه إلى البقعة الأكثر توترًا والتهابًا في
العالم ـ غزة ـ ويدفعوا دول المنطقة لنسيان شئونهم الداخلية العاصفة
بالصراعات السياسية والأيدلوجية.
كثير
من المراقبين كانوا يتوقعون ضربة "إسرائيلية" محدودة إلى غزة شبيهة بتلك
التي ضربتها لمجمع اليرموك للصناعات العسكرية في الخرطوم، وذلك لأسباب
داخلية محضة تتعلق باقتراب موسم الانتخابات "الإسرائيلية"، ورغبة "النتن
ياهو" في حسمها مبكرًا، بعد أن قام بتقديم موعدها لكبح جماح المنافسين على
الكرسي وعلى رأسهم العاهرة السياسية "ليفني تسيبني"، ولكن على ما يبدو أن
للضرب أهدافًا كثيرة ومتنوعة بين الداخل والخارج، بصورة جعلت من ضرب غزة في
هذا التوقيت بمثابة صيد عدة عصافير بحجر واحد.
نتنياهو
أراد من هذه الضربة أن يبرهن على قدرته الكبيرة على المناورة والخداع
لمستوى يصل لخداع بعض الساسة والقادة العسكريين "الإسرائيليين" المنافسين
أيضًا، فقرار الاحتلال "الإسرائيلي" بشن عملية عسكرية في القطاع اتخذ منذ يوم الثلاثاء في جلسة اقتصرت على وزراء حزب نتنياهو وفق
ما نشرته صحيفة "هاآرتس" الصهيونية قريبة الصلة من حزب نتنياهو، دون عقد
جلسة للمجلس الوزاري الأمني كما هو معتاد عند إطلاق أي العدوان على القطاع،
ومن خلال تحركات دبلوماسية اشتركت فيها مصر سعت "إسرائيل" إلى طمأنة حركة
حماس بأن "إسرائيل" لن تهاجم القطاع قريبًا، لدفع الحركة إلى خفض درجة
استنفارها وجاهزيتها تحسبًا لوقوع هجوم "إسرائيلي"، وأوهمتها أنه لن يُنفذ
هذا ما دامت الحركة ملتزمة بالهدنة، بينما تفرغت الأجهزة الأمنية الصهيونية
الخاصة لتعقب مكان القائد العسكري لكتائب عز الدين القسام أحمد الجعبري
رحمه الله. وفي السياق نفسه قام نتنياهو
يوم الاثنين بعقد لقاء مع السفراء الأجانب المعتمدين في "إسرائيل" في
مدينة أشكلون، للتأكيد على أن "إسرائيل" ستسعى لوقف إطلاق الصواريخ من
القطاع، لكنه أوهم الدبلوماسيين أن الحديث لا يدور عن عملية قريبة، وترك
نتنياهو نفس الانطباع عند رؤساء البلديات "الإسرائيلية" في الجنوب خلال
لقائه بهم يوم الثلاثاء. في مناورة متعددة الأطراف برهن بها نتنياهو على
جدارته برئاسة لمجلس الوزراء "الإسرائيلي"، وهو المنصب الذي أصبح في شبه
المؤكد أنه قد حسم لصالحه بهذه الضربة الموجعة، فالكرسي "الإسرائيلي" لا
ينال في هذا الكيان الغاصب إلا للأكثر دموية وسفكًا للدم الفلسطيني الغالي.
إسرائيل
أرادت من هذه الضربة أن تضع الدولة المصرية الجديدة قيادة وجيشًا وشعبًا
في ورطة حقيقية تزيد من متاعب الرئيس مرسي المثقل بهموم ومشاكل الداخل
المصري، حتى أن بعض المراقبين وصف ضربة أمس بأنها قصف مباشر لمصر بلا شك ،
فـ"إسرائيل" أرادت من قصفها لغزة أن تزيد من اضطراب الداخل المصري ومعاناته
بسبب الصراع الواضح والصريح بين الإسلام والعلمانية، والذي أظهر بقوة تفوق
المنادين بتطبيق الشريعة وانضمام غالبية الشعب لمطالبهم، ووصول المسار
السياسي هناك لمرحلة شبه انسداد بسبب تعقيدات كتابة الدستور وغياب المجالس
المنتخبة وصراع مراكز القوى القديمة التي تريد بقاء النظام المصري على حاله
كما كان أيام مبارك، "إسرائيل" أرادت أن تنسف مصداقية الرئيس مرسي وجماعته
الإخوان المسلمين التي بنت دعوتها وتاريخها النضالي والسياسي على حجر
زاوية اسمه "القضية الفلسطينية"، فهي تضع بضربتها تلك تاريخ الإخوان
المسلمين كله على المحك، وتظهرهم بثوب المتناقض المذعور، أو النفعي المتردد
وراء بوصلة مصالحه، لذلك لم يكن
مستغربًا مسارعة القوى الليبرالية والعلمانية وفلول النظام القديم المعروفة
بعداوتها للتيار الإسلامي وولائها لأمريكا و"إسرائيل"، في التشفي من موقف
الرئيس مرسي، والمزايدة عليه في ملهاة سياسية غير مستغربة على العلمانية
المصرية، وبث الأفلام والفيديوهات القديمة للرئيس وجماعته والتي تتحدث عن
نصرة فلسطين والخروج بالملايين. أيضًا "إسرائيل" أرادت بضربتها توجيه رسالة
أخرى إلى الجيش المصري وقيادته الجديدة، بعد رسالة ضرب السودان والتي تمت
بمناورة خداع حربية للدفاعات الجوية المصرية، فالجيش المصري وقيادته
الجديدة أخذوا في تكثيف تدريباتهم القتالية وبالذخيرة الحية منذ قصف
السودان، ولا يكاد يمر أسبوع إلا وهناك مناورة أو مناورتان للجيش المصري،
بعضها اشترك فيه وزير الدفاع وقادة الجيش بأنفسهم، مما أعطى انطباعًا
عامًّا أن حالة السبات الطويلة للجيش المصري قد انتهت، وأنه في حالة
استنفار واستعداد دائم، فجاءت الضربة بمثابة بالون اختبار للجيش المصري
ودراسة رد فعله، وهل سيكون هناك جديد عند القيادة العسكرية الجديدة في مصر؟
أم سيظل النهج العسكري المصري ثابتًا كما كان منذ
عهود؟ وربما تدخل "إسرائيل" بهذه الضربة القيادة السياسية في أزمة مع
القيادة العسكرية حال تعارض وجهات النظر، ناهيك عن استغلال الأوضاع
المضطربة داخل سيناء، والانفلات الأمني الكبير بها، وعدم قدرة الجيش المصري
على ضبط مداخل ومخارج سيناء بصورة تمنع حدوث هذه الخروقات اليومية، ومن
يدري فربما سيناء تكون في المستقبل القريب البقعة التي ستحسم الصراع العربي "الإسرائيلي"؟!
"إسرائيل"
بهذه الضربة أيضًا أرادت أن تخفف الضغط على حليفها الوثيق "بشار الأسد"
بعد التحولات الكبيرة على المسار القتالي والميداني والتفوق اللافت للجيش
الحر على جيش بشار، فـ"إسرائيل" قد رصدت تغييرًا واسعًا في تركيبة الجيش
الحر وتدفق أعداد كبيرة من المجاهدين الإسلاميين من ذوي الخبرة القتالية
الواسعة والعقيدة الإيمانية الراسخة على الجيش الحر، ما أدى لتغيير دفة
القتال لصالح الثوار، "إسرائيل" على ما يبدو عازمة على المضي قدمًا في
الحفاظ على بشار الأسد الذي أصبح الكنز الاستراتيجي لـ"إسرائيل" بعد سقوط
الخائن مبارك. منذ أسبوع والجيش الصهيوني يدعم جيش الأسد خلسة في قرى
الجولان المحتل منذ عدة أسابيع، وقد قامت القوات الصهيونية بإطلاق القنابل
الضوئية ليلتين متواصلتين فوق قرى الجولان، مما سهل على شبيحة الأسد وجنوده
اكتشاف مواقع الجيش الحر، وتم قصفها بالمدفعية فورًا بعد إطلاق القنابل
الكاشفة، وعندما قامت كتيبة من
مقاتلي الجيش الحر بمحاصرة مجموعة من جيش بشار الأسد، فأطلقت المدفعية
الصهيونية قذائفها على مواقع الجيش الحر، مما سهل على جيش الأسد الانسحاب
والفرار من المكان. أيضًا كشف أحد قادة الجيش الحر بالأمس في حوار له على
قناة الجزيرة أن حركة حماس قد أرسلت العديد من كوادرها وعسكرييها للمشاركة
في التدريب والقتال مع الجيش الحر ضد النظام الأسدي الذي يحظي بدعم كبير من
مليشيات "حزب الله" الشيعي والجيش الصهيوني في الجولان.
"إسرائيل"
أيضًا بهذه الضربة الغادرة أرادت تحجيم القدرات العسكرية والتسليحية
المتنامية لحركة حماس منذ اندلاع الثورات العربية، وضرب البنية التحتية
العسكرية لحماس، فمن المعروف أن كميات كبيرة من العتاد الحربي المتوسط،
خاصة من الصواريخ أرض ـ جو، وأرض ـ أرض، تدفقت على غزة بالأخص من الجانب
الليبي خلال العامين الماضيين، واستطاعت حماس أن تنمي قدرات صاروخها الأشهر
"فجر" لتنقله من صنعة بدائية بمواد أولية وتصنيع داخل ورش الحدادة، إلى
صاروخ مطور قادر على حمل رؤوس تفجيرية ويصل مداه أكثر من 30 كيلو متر،
فأرادت "إسرائيل" ضرب هذا العتاد الحربي ومخازنه في غزة، وفي نفس الوقت
اختبار منظومة الدفاع الجديدة "القبة الحديدية" والتي استطاعت أن تمنع 80
صاروخًا فلسطينيًّا من السقوط على المدن "الإسرائيلية"، ولكنها فشلت في
التصدي لصاروخ فجر 5 المطور والذي أصاب تل أبيب اليوم وأوقع بها خسائر
بشرية ومادية.
"إسرائيل"
أيضًا أرادت بهذه الضربة أن تختبر ولاء الرئيس الأمريكي "أوباما" في مستهل
فترته الرئاسية الثانية، وهي الفترة التي عادة ما يقل الدعم الأمريكي
لـ"إسرائيل" نسبيًّا عن الفترة الأولى، بسبب الاعتبارات الانتخابية وحساب
الأصوات وغير ذلك، وأوباما أبدى في فترة الانتخابات نيته الأكيدة عن الدعم
الكامل واللا محدود للكيان الصهيوني، وكانت هذه الضربة للتأكد على مصداقية
هذه الوعود.
"إسرائيل"
يبدو أنها في قمة الانتشاء والفرح بالضربة القوية الغادرة، ولكن الأيام
والتجارب علمتنا أن "إسرائيل" وإن كانت هي التي تبدأ الحرب، فهي دائمًا
التي تضطر لوقفها، ولا تستطيع أن تتحكم في وتيرتها، فالصمود الفلسطيني
عصيٌّ على الغطرسة الصهيونية لعشرات السنين، وليس عامود السماء بأشد فتكًا
وتخويفًا من الرصاص المصبوب، وفي المقابل فإن الذي يجب أن تعيه القيادة
المصرية أن الرسالة "الإسرائيلية" التي بعث بها نتنياهو إليها عبر ضرب
الخرطوم ثم غزة تحتاج إلى رد سياسي وميداني قوي، تجعل الصهاينة وقتها
يقنعون بأن مصر والمنطقة كلها قد تغيرت، ومصر رغم كل متاعبها الداخلية
ومؤامرات العلمانيين والفلول من أجل زعزعة الاستقرار بها، إلا أنها قد
تغيرت، وتملك من الخيارات السياسية والتكتيكية والإستراتيجية ما تستطيع أن
تقنع بها "إسرائيل" بأن أيام مبارك قد ولت، وأن الممارسات الصهيونية
القائمة على العربدة ونقض العهود والغطرسة ستؤدي حتمًا في النهاية مهما طال
الوقت إلى زوال هذا الكيان الغاصب، ومن يدري ربما يكون ذلك في القريب
العاجل، وبأيدينا نحن وأيدي المؤمنين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق